Tuesday, September 30, 2014

عم صلاح

الثامنة صباحاً..


   يرفع الأبواب الحديدية الثقيلة للمحل ذا الواجهتين بتأنى شديد و هو يبسمل و يصلى على النبى بصوت خفيض لا يكاد يسمع, يفتح إذاعة القرأن الكريم يمد يده و يسحب المكنسة المركونة بجانب الثلاجة الرأسية الحمراء المزينة بشعار شركة مشروبات الغازية و الموضوعة امام ماكينة التصوير القديمة و يبدأ فى كنس الرصيف و التنظيف أمام المحل بتمهل و تركيز يليق بأهمية المهمة, ثم يشرع فى جر الثلاجة من داخل المحل و وضعها بالخارج بجوار مثيلاتها الأفقية الزرقاء المزينة بشعار شركة مشروبات غازية أخرى و التى تبقى مثبتة بإطار حديدى خارج المحل طوال الوقت, و يبدأ تنظيف المحل من الداخل.
 
يستغرق عم صلاح حوالى ساعتين فى عملية تنظيف المحل الذى لا تتعدى مساحته أربعة أمتار يتخللها عمليات بيع لبعض الزبائن المستعجلين دائماً للحاق بأعمالهم , قاموس عم صلاح لا يشمل كلمة إستعجال, عم صلاح يفعل كل شئ بتمهل شديد - غالباً ما يصيبك بالملل- يظن البعض أن السبب فيه عمره الذى أوشك على السبعين, و لكن سكان المنطقة القدامى يعرفون ان الأمر لا علاقة له بالسن فهم إعتادوا على تأنيه الشديد منذ أن فتح عم صلاح مكتبته فى منتصف السبعينات , و تحولت عبر السنين الى ما هو أشبه بمينى ماركت, فى هذا الحى و الذى تزامن مع ظهور الحى نفسه, و يعرفون أيضاً ان السر فى ذلك هو تفانى و إخلاص عم صلاح فى أداء اى عمل يقوم به بإتقان شديد أياً كان حجمه او درجة أهميته حيث يخيل لمن يراه و هو مستغرق فى رص زجاجات المياه الغازية بداخل الثلاجات  بعد ان يغسل كل زجاجة على حدا بالماء جيداً و يجففها انه يعيش فى عالم منفصل قائم بذاته لاشئ فيه إلا الثلاجة و زجاجات المياه الغازية..

الثانية عشر ظهراً..


يجلس خلف الفاترينة الزجاجية المعروض فيها بعض الأدوات المكتبية من مساطر و أقلام و بعض انواع الحلوى و الشيكولاتة, يقرأ بتمعن الصحف يمسح رأسه الأصلع من حيناً لأخر ثم يمرر يده على شاربه الرفيع قبل ان يرفع من على أنفه الدقيق النظارة ذات الإطار الذهبى الذى حال لونه مع الزمن, ثم يباشر الطقس اليومى المقدس و المفضل لديه.. يسحب خرطوم المياه الطويل و يقف منتصباً كرشه الضخم يمتد أمامه بفخر و إعتزاز أمام المحل يرش الشارع بالمياه فى إستمتاع حقيقى دون ان يفرط فى إستخدام المياه خوفاً من أن يغرق أرض الشارع الترابية و يحولها الى بركة طينية, و هو يردد جملته الأثيرة :" شوية طراوة علشان ربنا يطريها علينا "..

التاسعة مساءاً..


يقف عم صلاح مقطب الوجه و كأنه طبيب يجرى عملية جراحية يصور الأوراق على ماكينة التصوير و يعد الملازم للطلبة العائدين من المجموعات و الدروس الخصوصية المتحلقين من حوله يملؤن المكان و يقفون خارج المكتبة فى مجموعات متفرقة يتصايحون و يمزحون, ينظر شزراً من آن لأخر الى التلفاز المعلق بأحد أركان المكان يبث نشرة الأخبار ثم يلتفت للطلبة المتواجدين حوله يوجه لهم بعض النصائح ثم يدعو لهم بالتوفيق..
يدخل ولد صغير لا يتجاوز الثامنة و هو ينادى على عم صلاح من وسط الطلبة ليحضر له بعض الحلوى, يترك الورق و يلتفت "مسرعاً" للصوت و الإبتسامة تعلو وجهه ثم يسألة: "أجيبلك ايه يا حبيبى؟!".
يطمئن الصبى على الكيس الذى يحتوى على الحلوى بداخلة ويمد يده الممسكة بالنقود بقوة و هو يسأل: "كام يا عمو؟"  تتسع الأبتسامة على وجه عم صلاح و هو يربت على رأس الصبى و يقول: " دول هدية منى ليك متنساش تسلملى على بابا و تقول له كل سنة و أنت طيب.." .
يراقب الصبى و هو ينطلق عائداً الى منزله فى سعادة بعد ان حصل على الحلوى.. يلتفت ليثبت الورقة المعلقة خلفه و المكتوب فيها بخط بارز كبير (الشكك ممنوع و الزعل مرفوع)..
 
 
يسأل البعض عم صلاح لماذا لا تؤجر المكتبة او تعهد بها الى أحد أبنائك و تستريح بدلاً من التعب و "وجع الدماغ" , يهز عم صلاح رأسه فى إستنكار و هو يقول لمحدثه: " ماقدرش... إبتسامة العيال الصغيرة وتصوير ورق دروس الطلبة بيحسسنى بقيمة شغلى وبيحسسنى دايماً إن الحياة فيها حاجة تستحق تعيش علشانها و من غيرها أموت..!! "


No comments:

Post a Comment