لم تكن تفكر يومًا أن الأمور قد تسوء أكثر مما كانت عليه..
لم تكن تفكر يومًا أن هناك أوضاع أكثر مأساوية من وضعها السابق..
لم تكن تفكر يومًا أن حلمها الجميل يمكن أن يتحول إلى كابوس مرعب..
لم تكن تفكر إلا فى كيفية الخلاص..
عاشت منذ أن تخطت سنواتها العشر تحت سلطوية الأب الخانقة.. عاشت حتى إلى أن أنهت تعليمها الجامعي.. و أصبحت قيد الإقامة الجبرية تحت رقابة صارمة وأوامر حازمة و عقاب رادع –أو هكذا يظنون- لأنه لم يردعها يومًا عن إرتكاب ما يحلو لها من أفعال.. أفعال لو علم بها الأب لفقد عقله إلى الأبد.. أفعال لم تكن تجرؤ هى نفسها على تخيلها.. و لكنها فعلتها!
لم تفكر طوال تلك الفترة من عمرها إلا في كيفية الرحيل و الهروب من بيت أبوها و قوانينه القاسية.. تتذكر عندما كانت في الرابعة عشر من عمرها كيف فكرت فى الخلاص من الحياة كلها للهروب من الحياة تحت سقف هذا البيت..
تتذكر كيف جبنت فى ذلك اليوم و كيف أكتشفت حبها للحياة و عدم قدرتها على التخلي عنها..
لم يكن هناك سوى وسيلة واحدة تسمح لها بتحقيق حلم الحرية.. وسيلة واحدة تتيح لها الخلاص من بيت أبوها و الإستقلال بحياتها و العيش تحت سقف خاص بها يُدار وفقا لقوانينها الخاصة بدون وصاية الأب.. كانت الوسيلة لوحيدة هي الزواج!
في البدء كانت تراودها أحلام الإستقلال.. وهي تتخيل نفسها وقد تزوجت من زميل الدراسة.. ذلك الزميل الذي تحولت صفته تدريجيا من زميل إلى حبيب..
على الرغم من إنها لم تكن أول علاقة لها إلا أنها شعرت أن هذه العلاقة قد تؤدى إلى الخلاص.. كل ما تحتاج إليه حاليًا هو إظهار المزيد من الحب له وانتظار التخرج حتى يتقدم لخطبتها من والدها.. و لكنها أفاقت من أحلامها على صوت حبيبها و هو يعترف لها بعدم قدرته على الزواج منها تنفيذًا لوصية والدته بالزواج من إحدى فتيات العائلة.
لم تنهار و لم تحزن و لم تصب بالإكتئاب بل أصبحت أكثر واقعية و منطقية.. فالحب لا مكان له فى الحياة.. الحب موجود فقط فى الروايات التي كانت تقرأها سرًا خوفًا من بطش أبيها.. و هكذا اتخذت القرار.. الموافقة على الزواج من أول شخص يطرق باب منزل والدها أيًّا كان.. و قد كان.
تتذكر كل هذا الآن بعد أن تزوجت من ابن صديقة أمها الذى رأته أول مرة يوم الخطوبة..
تتذكر كيف أُعجبت بأناقته..
تتذكر كلامه المعسول طوال فترة الخطوبة..
تتذكر يوم زفافها بالفستان الأبيض والفرح الذى بدا لها أسطوريًا وقتها..
تتذكر نظرات صديقاتها و ضحكاتهم و همساتهم الخبيثة في أذنيها..
تتذكر لحظة دخولها بيتها الخاص لأول مرة..
تتذكر شعور النشوة التي أجتاحتها بعد تحقق حلم حياتها و خلاصها من بيت أبوها..
تتذكر حينها كيف اعتقدت أن كل متاعبها انتهت إلى الأبد..
تتذكر كل هذا الآن بعد أن أدركت كيف كانت مخطئة حينها.. بعد أن أدركت أن أناقة زوجها و كلامه المعسول لم يكونا إلا مجرد واجهة زائفة تخفي خلفها إنسانًا بلا قلب.. بعد أن تحول البيت الذى حلمت به و الذى أسست كل ركن فيه واختارت أثاثه بنفسها إلى زنزانة تطبق على روحها بجدرانها الباردة..
تتذكر كل هذا الآن بعد أن انتهت مشاكلها الزوجية بالإنفصال عن زوجها.. بعد أن عادت هي و طفلتها ذات العامين إلى غرفتها القديمة.. بعد أن أصطحبتها معها وعادت مرة أخرى لتعيش ثانية فى بيت أبيها!!
أيمن عبد الجواد